(1)
في تلك القرية الصغيرة التي تطل على ضفاف النيل؛ تشرق شمس الصباح لتكشف عن تفاصيل الريف البسيطة، حيث عم حسنين يخرج بحماره الأبيض في الصباح الباكر، يتأبّط (طوريته) متجهاً نحو (حواشته) التي تبعد قليلاً عن القرية، يذهب هناك ويغوص في أحواض الجرجير والطماطم والفجل، ليعود بحصيلته ليفرشها في سوق القرية الذي يتعالى منه صياح الدجاج منتظراً من يشتريه، ليختلط مع أصوات الباعة ومساومات الزبائن.
بعد ذلك يرجع عم حسنين إلى بيته فـ يتناول طعام الغداء ويتهيأ للذهاب إلى دكان (حاج رمضان) ليتجاذب هناك أطراف الحديث مع بعض رجال الحلة المعمّرين.
(2)
شُلة عم حسنين تتكون من (ود المقبول) و حسنين نفسه، وحاج رمضان، وهذا يعتبر من حكماء الحلة، ويشتهر بتفسير الأحلام، لديه موهبة أن يفسر أي حلم، حتى وإن كان من أحلام اليقظة!.. بقى صالح الجزّار، وهذا يجيد الاستماع والمداخلات التي تحث المتكلم على المواصلة، تجده يفتل شاربه الضخم وهو يقول كلمات من نوع:
- أها .. أيوة .. واصل .. والحصل شنو بعداك...
هذا هو كل ما يجيده صالح الجزّار، أما عم حسنين فكان يتميز بأن يحلم بعض الأحلام العجيبة، والتي لا يستطيع تفسيرها إلا حاج رمضان.!
(3)
في ذلك اليوم أتى عم حسنين كعادته وجلس وسط الشُلة الجالسة أمام دكان حاج رمضان، عدّل من وضع عمامته وقال:
- علي بالطلاق آ حاج رمضان جاييك المرة دي بي حَلْمة ختيرة خلاس .. دايرك يعني تفسرها لي بي (الفلفسة) بتاعتك العجيبة ديك..!!
أجابه حاج رمضان وهو مشغولٌ عنه بـ وزن ربع كيلو من العدس ليعطيه لطفل يقف أمام سياج الدكان، ربط حاج رمضان الكيس بمهارة وهو يقول:
- أصبر لي الـ نبايع الجنا ده وأجيك.. أصلو أحلامك دي ما بتكمل .. مرة حلمان بي نملة لابسة سفنجة مقاس عشرة.. ومرة ما عارف كراع العنقريب قامت ليها أصابعين..
واصل حديثه وهو يضع بعض حبات البصل وكيس العدس في كيس آخر ويسلمها للطفل، ثم قال:
- والعجب حَلْمَتَكْ بتاعت حمارك القلت قامو ليهو ضنبين ديك .. إنتا يا حسنين قاعد تجيب الأحلام دي من وين آ خوي؟!
ضحك حسنين وهو يقول:
- إنتا براك قلت في الحمار القام ليهو ضنبين معناتا جايني حمار تاني .. أها كلامك طلع صاح .. بعد شهر بس بقو حمارين ..
ثم قام من مكانه وجر كرسي ثم أضاف قائلاً:
- كدي أقعد لي يا حاج رمضان الـ نحكي ليك الحلمة الجديدة دي. .!
(4)
جلس حاج رمضان وخلع عم حسنين عمامته ووضعها بقربه وهو يحكي:
- أمس آ حاج رمضان آ خوي رأيت في المنام إنو أنا في الحواشة.
تدخل هنا صالح الجزّار مقاطعاً:
- أيوة واصل .. أها الحصل شنو بعداك؟!
صاح فيه حسنين بـ حِدّة:
- شنو يا صالح ياخي طوالي ناطي لي كده؟!. أصبر الـ نتمّ ليك!!
استدركه حاج رمضان مهدئاً:
- اتكلم يا حسنين نحنا سامعين ..
ثم إلتفت إلى صالح قائلاً:
- وإنت لوك الصبر شوية خلي الزول يتم كلامو.. !!
واصل عم حسنين حديثه:
- وبعداك أنا في الحواشة كده .. مشيت على حوض العجور (الخرت).. داير أفتح ليهو الموية ..
جرّ نفسه بعمق ثم قال:
- أها آخوي (فجعةً) كده شفت ليك العجور الـ في الحوض قام على طولو!!!
هتف به حاج رمضان بدهشة:
- كيف يعني العجور قام على طولو!!
رد عليه عم حسنين وهو يلوح بيده في انفعال:
- أي والله .. العجور قام على حيلو .. وكمان أي عجورة بقت عندها كرعين صغااار .. وعيون كبااار..
أضاف بنفس اللهجة:
- وتعال شوف العجور كلو كده جاني ماشي عدييل!!
وهنا صالح الجزار غلبه الصبر، فصاح بدهشة:
- الكترااااابة..!!! العجور جاك ماشي بي كرعينو يا حسنين؟!!
هتف حسنين بـ حدة:
- أيّ وحات القسم .. جاني ماشي ويحمّر لي بي عيونو ساااي .. ماشي علىّ وأنا راجع لا ورا .. !!
تدخل ود المقبول صائحاً:
- الخراابة .. أها آخوي اتصرفت كيف؟!
واصل حسنين في سرد أحلامه العجيبة:
- بعداك يا ود المقبول أنا قمت جاري.. والعجور قام جاري وراي ..
ثم أضاف وأنفاسه تعلو وتهبط:
- أنا جاري .. والعجور جاري وراي .. وغبارو يلوي .. كل ما أتلفت .. ألقى ليك العجور قرّب يلحقني...!!
قاطعه حاج رمضان بشغف:
- أها آ حسنين .. العجور نعل ما لحقك؟!!
إلتفت إليه حسنين قائلاً:
- ما لحقني شنو ؟... يا زول أنا تعبت من الجري و وقعت بُرْدُلبْ.. في الواطة.. وتعال شوف العجور اتلم ليك فيني .. وحاوطني ليك.!!
تدخل صالح الجزّار بقوله:
- ها آ زول إنت ما بقيت في وضع صعب خلاس ... والله دي حلمة عجيبة .. نعل العجور ما هَبَشَكْ ؟!
هذه المرة نهض حسنين من مكاناً وهتف بصوت عالي:
- ما هبشني شنو ياااخ ..
وأضاف وهو يؤشر بيديه:
- واحدة من العجورات الغليدة .. كبيرة أخواتا .. عجورة ليها عنقرة .. السيف ما يدّليها .. قامت خنقتني ليك .. لمن قرّبت أفطس .. وكان ما صِحِيت في الوكت داك كان رُحت فيها...!!
ثم تحسس عنقه وهو يقول:
حررّم .. دَرِب الخنقة لي هسع في رقبتي ..!!
ثم التفت لجماعته وهم يبحلقون فيه بذهول، ثم قال:
- أها يا حاج رمضان فسّر لي دي؟
(5)
حكّ حاج رمضان رأسه بـ حيرة .. ثم قال:
- والله يا حسنين المرة دي جبتها كبيرة عديل ... لكن العجور في المنام معناهو واحد من أولادك بشبهك ...
قاطعه حسنين وهو يهب من مكانه:
- أيواا بس ده ولدي البكر (حمد) ..
ثم تناول عكازه واتجه نحو بيته وهو يرغي ويقول:
- داير تخنقني أنا آ حمد .. الليلة أرجا الراجيك ..
نهض صالح الجزّار وهو يحث البقية ويقول لهم في استعجال:
- يلا يا جماعة نلحق الزول المجنون ده قبل ما (حمد) يروح فيها...!!